لأنك فَخَار الضاد وأدبها الأول .. ولأنك معين حروف الحب والشوق والثورة .. ولأنها ملائكية الإيقاع التي خطتها حروفك ، وقدسية السطور النيّرات إلي الأبد ، لأنك كذلك وستبقي .. كان لابد أن نلتقي يوما هنا ، ونأتي هنا ... نُطرق دروبك الرائعات .. وأمواجك الهادئات الهادرات الثائرات الباسمات العاشقات فينا يا أبي ، هنا لا رحيل .. هنا لا رحيل ولا غروب ولا خريف ، هنا البقاء ، هنا اللقاء إلي الأبد .. هنا اللقاء إلي الأبد - أسامة إبراهيم
يمشى على الشارع ذاته , في الموعد ذاته , مكتفياً بما يمنحه المساء من تذوّق متهّل لطعم الهواء . يأسف كلما لاحظ النقصان المتزايد في الأشجار الزيتون , حيث تزداد البنايات ارتفاعاً كآلامنا وتُقَلِّص كمية الفضاء . لكن الفتيات الصغيرات يكثرن ويكبرن وينضجن دون أن يخشين الزمن المتربِّص بهن عند نهاية الشارع النازل إلى الوادي , ينظر إليهن بلا اشتهاء . وينظرون إليه بفضول , ويقلن له : مساء الخير يا عم ! يُحِبُّهنَّ بلا غصَّةٍ سفرجليَّة , ويحتفي بجمال نضارتهنَّ وبنضارة آمالهنّ , كما يحتفي بموسيقى, وبلوحة مائية , وبطائر أزرق الذيل . هُنَّ يستعجلن الزمن ليصبغن أظافرهن بالأحمر المتحرّش بثيران خفيّة , ولينتعلن الكعب العالي لكسر ثمار الجور وإيقاظ النائم . وهو يستمهل الزمن ليطيل متعة المرور بينهن جاراً لجمال مستقلّ . ولا بأس في أن يتذكر أنه عندما كان أَصغر كان يغبط نفسه كلما مشى برفقة مُهْرَةٍ على طرق أخرى((هل كُلُّ هذا الكليّ لي؟)) ثم يواصل المشي على الشارع وحيداً. يَعُدُّ على أصابع يديه ما تبقَّى من أشجار الزيتون , ويفرج بغزلان تتقافز حوله بحياد متبادل . لا يغبط نفسه على شيء! .. ولا يحسد غيره !
((كم البعيدُ بعيدٌ)) ؟ كم هي السُبُلُ؟ نمشي ونمشي إلى المعنى ولا نَصِلُ ... هُوَ السرابُ دليلُ الحائرين إلى الماء البعيد هو البُطْلاَن... والبَطَلُ نمشي , وتنضج في الصحراءِ حكمتنُا ولا نقول : لأنّ التِيه يَكْتملُ لكن حكمتنا تحتاجُ أُغنيةً خفيفةَ الوزن , كي لا يتعب الأَمَلُ ((كم البعيد بعيدٌ)) ؟ كم هِيَ السُبُلُ ؟
أنا هنا منذ عشر سنوات . وفي هذا المساء ، أجلس في الحديقة الصغيرة على كرسيّ من البلاستيك ، وأنظر إلى المكان منتشياً بالحجر الأحمر . أَعُدُّ الدرجات المؤدية إلى غرفتي على الطابق الثاني . إحدى عشرة درجة. إلى اليمين شجرةُ تين كبيرة تُظَلِّل شجيرات خوخ. والى اليسار كنيسةٌ لثورية . وعلى جانب الدرج الحجري بئر مهجورة ودلو صدئ وأزهار غير مرويَّة تمتصّ حبيبات من حليب أوَّل الليل . أنا هنا ، مع أربعين شخصاً ، لمشاهدة مسرحية قليلة الكلام عن منع التجوُّل ، ينتشر أبطالها المنسيّون في الحديقة وعلى الدرج والشرفة الواسعة. مسرحية مرتجلة ، أو قيد التأليف ، كحياتنا. أسترق النظر إلى نافذة غرفتي المفتوحة وأتساءل : هل أنا هناك ؟ ويعجبني أن أدحرج السؤال على الدرج ، وأدرجه في سليقة المسرحية : في الفصل الأخير، سيبقى كل شيء على حاله ... شجرةُ التين في الحديقة. الكنيسةُ اللوثرية في الجهة المقابلة. يوم الأحد في مكانه من الرُزنامة. والبئر المهجورة والدلو الصدئ. أما أنا ، فلن أكون في غرفتي ولا في الحديقة . هكذا يقتضي النص : لا بد من غائب للتخفيف من حمولة المكان !
خافَ. وقال بصوت عالٍ: أنا خائف. كانت النوافذ مُحْكَمَةَ الإغلاق ، فارتفع الصدى واتّسع : أنا خائف . صَمَتَ ، لكن الجدران ردَّدتْ : أنا خائف. الباب والمقاعد والمناضد والستائر والبُسُط والكتب والشموع والأقلام واللوحات قالت كُلُّها : أنا خائف . خاف صوت الخوف فصرخ : كفى! لكن الصدى لم يردِّد : كفى ! خاف المكوث في البيت فخرج إلى الشارع . رأى شجرة حَوْرٍ، مكسورة فخاف النظر إليها لسبب لا يعرفه. مرت سيارة عسكرية مسرعة ، فخاف المشي على الشارع . وخاف العودة إلى البيت لكنه عاد مضطراً. خاف أن يكون قد نسي المفتاح في الداخل ، وحين وجده في جيبه اطمأنّ . خاف أن يكون تيار الكهرباء قد انقطع . ضغط على زر الكهرباء في ممر الدرج ، فأضاء ، فاطمأنّ . خاف أن يتزحلق على الدرج فينكسر حوضه ، ولم يحدث ذلك فاطمأنّ . وضع المفتاح في قفل الباب وخاف ألا ينفتح ، لكنه انفتح فاطمأن . دخل إلى البيت ، وخاف أن يكون قد نسي نفسه على المقعد خائفاً. وحين تأكد أنه هو من دخل لا سواه ، وقف أمام المرآة ، وحين تعرَّف إلى وجهه في المرآة اطمأنّ. أِصغى إلى الصمت ، فلم يسمع شيئاً يقول : أنا خائف ، فاطمأنّ . ولسببٍ ما غامض... لم يعد خائفاً !
يُسَلِّي نفسه ، وهو يمشي وحيداً ، بحديث قصير مع نفسه . كلمات لا تعني شيئاً ، ولا تريد أن تعني شيئاً : «ماذا ؟ لماذا كل هذا ؟» لم يقصد أن يتذمر أو يسأل ، أو يحكَّ اللفظة باللفظة لتقدح إيقاعاً يساعده على المشي بخفَّةِ شاب . لكن ذلك ما حدث . كلما كرَّر : ماذا... لماذا كل هذا ؟ أحسَّ بأنه في صحبة صديق يعاونه على حمل الطريق . نظر إليه المارة بلا مبالاة . لم يظن أحد أنه مجنون . ظنّوه شاعراً حالماً هائماً يتلقّى وحياً مفاجئاً من شيطان . أما هو ، فلم يَتَّهم نفسه بما يسيء إليها. ولا يدري لماذا فكَّر بجنكيزخان . ربما لأنه رأى حصاناً بلا سرج يسبح في الهواء ، فوق بناية مُهَدَّمة في بطن الوادي . واصل المشي على إيقاع واحد : «ماذا... لماذا كل هذا ؟» وقبل أن يصل إلى نهاية الطريق الذي يسير عليه كل مساء ، رأى عجوزاً ينتحي شجرة أكاليبتوس ، يسند على جذعها عصاه ، يفك أزرار سرواله بيد مرتجفة ، ويبوّل وهو يقول : ماذا... لماذا كل هذا ؟. لم تكتف الفتيات الطالعات من الوادي بالضحك على العجوز، بل رمينه بحبَّات فستق أخضر !
يرنو إلى أَعلى فيبصر نجمةً ترنو إليهْ ! يرنو إلى الوادي فيبصر قبرَهُ يرنو إليهْ يرنو إلى امرأةٍ ، تعذِّبُهُ وتعجبُهُ ولا ترنو إليه يرنو إلى مرآتِهِ فيرى غريباً مثله يرنو إليهْ !
ولدت فدوى طوقان في مدينة نابلس، وتلقت تعليمها حتى المرحلة الإبتدائية، حيث اعتبرت عائلتها مشاركة المرأة في الحياة العامة أمرًا غير مقبول.
ولد سميح القاسم لعائلة من الموحدون الدروز، وكانَ والدُهُ ضابطاً برتبةِ رئيس (كابتن) في قوّة حدود شرق الأردن وكانَ الضباط يقيمونَ هناك مع عائلاتهم.
خلف ديواناً ضخماً عرف بديوان (الشوقيات) وهو يقع في أربعة أجزاء الأول ضم قصائد الشاعر في القرن التاسع عشر والمقدمة وسيرة لحياته.
تخرج نزار عام 1945 من كليّة الحقوق بجامعة دمشق والتحق بوزارة الخارجية السوريّة، وفي العام نفسه عُيّن في السفارة السوريّة في مصر وله من العمر 22 عامًا.